.comment-link {margin-left:.6em;}

Zandaqa-1

Thursday, September 28, 2006

المسألة العلوية

عن أمارجي

على موقع "سيريا كومنت" ثمّة ركن لافت لكاتب ضيف يطرح فيه القضايا بالغة الأهمية الخاصة بالحكم العلوي في سوريا من وجهة نظر علوية كانت غائبة إلى الآن. ويقوم هذا الركن بعمل جيد في تلخيص ما يهم العلويين، ويطرح أسئلة معينة يطالب أبناء الطوائف الأخرى في سوريا بالإجابة عنها لإقناع العلويين في لعب دور في تغيير الأوضاع في البلد واتخاذ وجهة مناوئة لآل الأسد.ـ

والحال، أن قضية الانقسام السني-العلوي، أو الانقسام العلوي–جميع الآخرين إذا أردتم، هي واحدة من القضايا الأساسية، إِنْ لم تكن القضية الأساسية، التي تحتاج إلى تناول كيما يكون للتغيير السلمي فرصة في البلد. وقد عُنِيتُ بهذه القضية في هذا الموقع عدداً من المرات من قبل، غير أنَّ عليَّ القول إنّ التعليقات غالباً ما كانت تنزع إلى العمومية المفرطة، والبعد عن الإلهام.ـ

إنني أعتقد الآن أن أفضل طريقة لتناول هذه القضية تتمثّل في عقد ندوة للمثقفين والخارجين على النظام المعروفين بقصد التوصّل إلى مسودة اتفاق أو ميثاق وطني يتم فيه تناول هذه القضايا جميعاً. وعندئذٍ، يمكن أن نطالب جماعات المعارضة السورية بأن توقع عليه. ومن ثم يتم دعوة من وقّع إلى مؤتمر عام (يحضره المثقفون بصفتهم الشخصية ، في حين يُطْلَب من الجماعات المنظمّة إرسال وفود تمثّلها لا يزيد عدد أعضائها على 10 ممثلين) تجري فيه انتخابات لتشكيل حكومة في المنفى تشتمل على برلمان، ورئيس وزراء وحكومة مصغَّرة.ـ

فقد يُثْبِتُ هذا الجمع بين طابع وطني وحكومة منفى منتخبة أنه صيغة جيدة تثير اهتماماً شعبياً ويدعمها الطيف السياسي والطائفي في البلد.ـ

غير أننا نحتاج، في سياق مناقشة القضايا ذات الصلة، إلى أن نهتمّ بعدد من النقاط:ـ

أولاً، على الرغم من شكّ كثير من العلويين بأن السّنة معادين لهم، إلا أن قلة من السنّة وحسب هي التي تناهض العلويين في حقيقة الأمر. صحيح أن معظم الخارجين على النظام في سوريا هم من السنّة، لكن جلّهم كانوا ليرضون، في السنوات القليلة الأولى من حكم بشار، لو أنه نفّذ بعضاً من الإصلاحات السياسية الضرورية. ولأنَّ كثيراً من هؤلاء السنّة هم علمانيون في الحقيقة، على الرغم من نزوعهم المحافظ في كثير من القضايا الاجتماعية، فإن استمرار الحكم العلوي بضع سنين أخرى كان ليعمل، من وجهة نظرهم، كضمانة في مواجهة الحكم الإسلامي. غير أنَّ هذا الخط من التفكير كان خطاً واهماً في واقع الأمر، وسبيلاً اتّبعه الزعماء السنّة للتنصّل من مسؤوليتهم تجاه طائفتهم. ذلك أن أحداً لا يمكنه أن يستوعب المتعصبين لدى سواه. وعلى كل الحال، يبدو من الواضح أنَّ النافذة قد أُغلِقَت الآن على هذه المسألة. ومعظم الخارجين على النظام وشخصيات المعارضة من السنّة، داخل البلد وخارجه، قد انتقلوا إلى تبنّي الالتزام الكامل بتغيير النظام.ـ

ثانياً، نحتاج أيضاً لأن نبقي في الأذهان أنَّ التصورات التي نُعْنَى بها، على الرغم من شعبيتها في المناطق المعنيّة، ليست صائبة تاريخياً بالضرورة. خذوا مثلاً شكاية العلويين من سوء معاملة السنّة لأسلافهم. فمثل هذا القول ليس سوى تعميم مفرط. وحقيقة الأمر، أن كلاً من الإقطاعيين الذين أساؤوا المعاملة والفلاحين الذين أسيئت معاملتهم كانوا من خلفيات طائفية متعددة، بما فيها المسيحية والإسماعيلية والسنية إضافة إلى العلوية. بل إنَّ العلاقات بين الإسماعيليين والعلويين لا تزال تنزع إلى اليوم لأن تكون متوترة بشأن هذا الموروث، الأمر الذي تدّل عليه الصدامات المتعددة التي جرت في العام 2004. غير أن الديمغرافيا هي الديمغرافيا، ويبقى السنة هم الأغلبية، ولذلك يُبَالَغ في تصوير مشاركتهم في جريمة الاضطهاد من كل الأطراف، على الرغم من أنهم يمثلون عددياً غالبية الضحايا أيضاً. لذا، وبالرغم من أنه ليس بوسعنا أن نتجاهل حقيقة هذه الانطباعات الشعبية، التي تمثّل العلويين كضحايا للسنة، أو السنة كضحايا للعلويين، لا نستطيع، كنخب قيادية في المجتمع السوري، سواء كنا منتخبين أم لا، وسواء كنا (وغيرنا) سعداء بهذه الصفة أم لا، لا نستطيع أن نوافق على هذه التصورات والانطباعات التبسيطية، وإلا لتقوّضت بشدة قدرتنا على إجراء مناقشات ذات معنى مع بعضنا بعضاً.ـ

ثالثاً، ينبغي أن يكون واضحاً هنا إنَّ إجراء انتخابات ديمقراطية لا بدّ أن يعبّد الطريق أمام دور سني كبير، بل مسيطر، في عملية صنع القرار، نظراً لكون الديمغرافيا على ما هي عليه. ولذلك، إنْ لم يكن بمقدور الناس أن يقبلوا بهذا الأمر، فمن الأفضل إذاً أن يكفوا إذاً عن الادعاء بإنهم مهتمين حقاً بالديمقراطية. ولكن، وبدلاً من المراهنة على تطوير نظام سوف يواصل تهميش الأكثرية، ويزيد تالياً من توحّدها الطائفي، نحتاج لأن نقوم بترتيبات جديدة معينة بغية الحيلولة دون صعود أي شكل من أشكال الحكم السلطوي سواء ارتكب سلطويته هذه باسم أكثرية معينة أو أقلية معينة، كائنة ما كانت. فالمطلوب هنا هو منظومة من الكوابح والتوازنات تقوم على مبدأ المحاسبة العامة، والشفافية، وحكم القانون، واحترام الحريات الأساسية.ـ

رابعاً، وينبغي هنا أن نتصور دوراً للجيش يقوم على حماية المنظومة آنفة الذكر، كما هو الحال في تركيا، بل ويُفَوَّض لفترة معينة من الزمن، لتسكين المخاوف السائدة لدى عدد من طوائف الأقلية، دع عنك السنّة العلمانيين، مهما تكن ميولهم السياسية. ولكن حتى هذا التدبير لا يمكن تحمله إلى الأبد. ونحن جميعاً نحتاج، في التحليل الأخير، لأن نتعلّم كيف نثق بعضنا ببعض من جديد ونبني جسوراً بين الطوائف المختلفة ومؤسسات ترمي إلى تمتين الروابط بين الطوائف (وهنا يخطر في الذهن ما نقوم به من نشاط في مشروع ثروة).ـ

خامساً، الوضع الراهن لن يدوم إلى الأبد، وسوف يأتي التغيير عاجلاً أم آجلاً، وسوف يأتي، في الواقع، بأسرع مما يتوقّع أيّ منا. فالعام 2006 ليس في النهاية العام 1006، والأمور تجري بوتيرة سريعة. والأسر الحاكمة لن تبقى لمئة سنة أخرى قطعاً. ولذلك، فإنَّ على العلويين أن يفيدوا من حقيقة أنهم في موقع السيطرة في هذه المرحلة، وأن يحاولوا استغلال وضعهم هذا لعقد أفضل صفقة ممكنة. إذ كلما أخّروا أمد ذلك، زاد إحباط السنّة وزاد تعصّبهم وتصلّب مواقفهم. والحقيقة، أنّ علينا أن ننتبه هنا إلى أنه مثلما توجد داخل الطائفة العلوية تيارات ترتاب في التغيير، فإن هناك داخل الطائفة السنيّة أيضاً تيارات تريد هذا التغيير مهما كان الثمن، ومستعدّة لأن تنتظر اللحظة المناسبة للقيام بذلك. وهذه التيارات السنية تزدهر في البلد الآن بفضل رعاية آل الأسد الذين يعتقدون أن بمقدورهم السيطرة عليها، وهذا وهم مطلق بالطبع. والوحيدون الذين يمكنهم أن يستوعبوا هؤلاء المتعصبين السنّة كما لاحظنا من قبل، هم المعتدلون السنّة، والطريقة الوحيدة لتمكين المعتدلين السنّة من فعل ذلك هي بعقد صفقة مع العلويين تعطيهم دوراً في عملية صنع القرار تكون أكثر تناسباً مع وزنهم الديمغرافي والاقتصادي. فكما لا يستطيع السنّة أن يتخلّصوا من آل الأسد وحدهم. لا يستطيع العلويون أن يستوعبوا المتعصبين السنّة وحدهم. والآن أكثر من أي وقت آخر، يحتاج المعتدلون من جميع الأطراف بعضهم بعضاً.ـ

في الصراع لاستيعاب الأزمة الوشيكة نحتاج لأن نعلم أنَّ الزمن ليس في صفّنا، وأنَّ السبيل الوحيد لجعله في صفّنا هو حين نشرع في مسيرة صحيحة ونأخذ نحن بزمام المبادرة في تسوية أمورنا، إذ لم نقم بذلك منذ مدة طويلة، وانظروا إلى أين أوصلنا هذا...ـ

Monday, September 25, 2006

المهرطق والصليب

(ترجمة لمداخلة لي على مدونتي الإنكليزية، أمارجي، قام بها أحد أعضاء فريق ثروة، الذي قام بترجمة جزءاً من الردود الهامة أيضاً. وهذه الأولى من سلسلة من المداخلات التي سيتك ترجمتها تباعاً من الآن فصاعداً. وطبعاً سأستمر في كتابة مداخلات خاصة بالموقع العربي بين الحين والآخر).ـ

على مرّ التاريخ وفي محاولتنا المستمرة كجنس بشري لأن نفعل ما هو صحيح وبطولي، غالباً ما ننتهي إلى فعل ما هو خاطئ تماماً وغبيّ غباءً فاضحاً، ذلك أننا غالباً ما نخلط بين ما هو مثير حسياً وما هو صحيح، ما هو أناني محض وما يندرج ضمن الخير العام. ولكي نتلافى مثل هذا المطب المؤسف، علينا ألا نكفّ عن تذكير أنفسنا بأنّ فعل الشيء الصحيح غالباً ما يكون جريمة يُعَاقَب عليها، بالمعنى المجتمعي على الأقل إن لم يكن بالمعنى القانوني الدقيق، أكثر مما يكون فعلاً بطولياً يُحتَفى به، وأنَّ التضحية والعطاء غالباً ما يُفسّرا على أنهما غباء وضعف، والإنسان الذي يبذل ما عنده بسخاء غالباً ما يقع ضحية ميله إلى فعل الخير.ـ

ولذلك، إن لم يكن بمقدورنا أن نعمل الخير من أجل الخير، فسوف نظلّ بائسين إلى الأبد، إذ أن انتظار المكافآت الأخيرة يمكن أن يستغرق حيواتنا بكاملها. وإلا، فسوف نزلّ بسهولة باتجاه فعل ما هو أناني محض، بصرف النظر عن نوايانا الأصلية. فالخير ينبغي أن يكون على الدوام جائزة ذاته ومكافأتها، والبطولة غالباً ما ينبغي النظر إليها من منظور الانتصارات اليومية التي يمكن للمرء أن يحققها على غرائزه الدنيا وإغراءات العيش اليومي المزمنة في عصر الاستهلاك المطبق. وإذا ما كان للخلاص أن يظهر أيما ظهور في حياتنا، وإذا ما كان حقاً جزءاً لا يتجزأ منها، فإن علينا أن نعلم أنه لن يُنْفَخ لقدومه ذلك الصور السماوي، بل سيزحف إلينا ذلك الزحف المسالم الرفيق، ولن يكون قطّ ذلك الشيء المجيد الذي نحسبه أو نتمنّى أن يكون عليه. فالبطولة غالباً ما تكون خافتة وفاقدة البريق، والأبطال أناس عاديين يمكن أن نصادفهم كل يوم، في كل مكان من حولنا، دون أن يحملوا أيّ أمارات تميّزهم عن سواهم سوى طيبتهم، هذا إن كنا لا نزال نريد رؤيتها، ولم تزدد كلبيتنا وشعورنا باليأس واللاجدوى حيال الوجود الفعلي لهذه الطيبة بيننا إلى درجة مفرطة.ـ

وأرواح هؤلاء الأبطال غالباً ما تكون مثقلة بالخطأ بل وبإحساس الهزيمة، على الرغم من كل ما حققوه من انتصارات يومية. ذلك أن كلّ إخفاق هو، بالنسبة لهم، إخفاق مفرط الجسامة وثمن معظم الانتصارات هو غالباً ثمن فادح. وما أُنجز يظلّ مقصّراً على الدوام عن أشدّ توقعاتهم تواضعاً. ذلك هو ثمن امتلاك ضمير حيّ، كما أحسب، وثمن المكابدة في تعلّم الإصغاء لهذا الضمير بكل ما أُوتي المرء من قدرة. وهذا أيضاً هو الثمن الطبيعي لامتلاك دافع فطري يدفع صوب الإنجاز وصوب السعي وراء اجتراح ضرب من التوازن بين نداءات هذا الإنجاز وما يمليه ضمير المرء. وقد يبدو الأبطال لنا كأنهم قديسون، لكنهم يبقون خطاة في أعين أنفسهم. وهذا ما ينبغي أن يكون، وإلا لأصيبوا بجنون العظمة وأبطلوا أثر كلّ ما قاموا به من أفعال الخير.ـ

هل يبدو ذلك كلّه نوعاً من الادّعاء الزائد من قِبَلي؟ لعلّه أن يكون كذلك. ولكن، من الذي لا يضمر في داخله مثل هذه الادعاءات الخيّرة؟ فنحن نحتاج مثل هذه الادعاءات كيما نواصل الإيمان بأنفسنا وبقدرتنا على تمييز الصواب من الخطأ وفعل بعض الخير في هذا العالم. صحيحٌ أنَّ مثل هذه الادعاءات قد تكون مفرطة قليلاً في حالتي، مع أنني لم أنكر قط نصيبي من عقدة المخلّص. غير أنني لم أستخدم هذه العقدة قطّ كتبرير لتجاهل إمكانية أن أكون مخطئاً في جلّ ما أؤمن به. فأنا أستمر لأنني لا أكفّ عن وضع نفسي تحت طائلة الشكّ، وإن كنت آمل أن يكون ذلك في الوقت المناسب، ولست أرى في قدرتي على النأي بنفسي عن المخاطر في الوقت المناسب، أو في التخلّص السريع من الأكدار، أي تبرير لما أفعله أو أؤمن به. واعتقادي أنني لطالما كنت محظوظاً، غير أنني كففت منذ زمن بعيد عن اعتبار حظي علامة واضحة على حظوة إلهية. فقصوراتي وأخطائي كثيرة جداً وقد بتّ أعي هذه القصورات والأخطاء إلى الحدّ الذي يحول بيني وبين أن أؤمن أي إيمان بمثل هذه الفكرة السخيفة. وعقدة المخلّص لدي غالباً ما عملت على حمايتي مني، لأنَّ ما من أحد آخر يمكن أن يكون مهتماً بذلك أو نزّاعاً إليه.ـ

والحال، أنني لست مهتماً بخلاصي الذاتي بقدر ما أنا مهتم بخلاص البشرية، لكني أعتقد أنَّ كل واحد منا مسؤول في النهاية عن صنع مصيره. ويمكن لنا أن نقدم العون واحدنا للآخر، أجل، وينبغي أن نقوم بذلك، غير أن على كل واحد منا، في التحليل الأخير، أن يختار على نحوٍ مستقل ما إذا كان يرغب في أن يُساعَد أو يتلقى المساعدة. فخلاصنا كنوع هو مسؤولية فردية وجمعية على السواء، وهو مسعى إنساني تماماً، ومسعى لا نهاية له قطّ. أجل، على الرغم من كل ما في هذا العالم من ظلم، يبقى لدينا خيار، وتبقى لدينا القدرة على أن نختار. أما أن تكون لدينا الشجاعة، والإرادة، والثبات، والنسيج الأخلاقي، والروح المغامرة، والموقف المبدئي، والأساس المعرفي اللازم للاختيار، دَعْ عنك أن نختار ذلك الاختيار العارف الواعي، فتلك مسألة أخرى تماماً. وهي أيضاً، للأسف، مسألة وثيقة الصلة بالأزمة التي نتناولها.ـ

لا شكّ أن هنالك من حولنا كثيراً من المصالح المتضاربة، وكثيراً من الطمع، والجهل، وقليلاً من الحزم والإقدام، ورؤى مفرطة في راديكاليتها وكرهها للغريب، مما يحول دون أن يوافق أحدٌ أحداً، أو أن يختار أي خيار عقلاني. وإنني لأشكّ حقّاً في أن تكون البشرية قطّ قد اختارت خياراً جمعياً عقلانياً ومخططاً له. فالشعوب والدول لا تستطيع أن تختار خياراً عقلانياً قطّ إلا في أعقاب كارثة كبرى، وفي تلك اللحظات القليلة والنادرة من الرزانة المدفوعة بالمأساة، مع أن ذلك لا يكون في العادة إلا على أدنى الدرجات التي يمكن تصورها. ويبدو أن الكثير من العقل يضعف الروح الإنساني ويبلّده.ـ

بيد أننا إذا ما أردنا أن نضع الأمور في إطار أقلّ كلبيةً وَجَبَ علينا القول إنَّ الكثير من العقل يصطدم بما لدى الأنظمة الحاكمة من مصالح دائمة، ويقيّد خيال الجماهير المحدود على طول الخطّ، تلك الجماهير المنشغلة دوماً بحاجاتها ومطالبها، ويبذر الاضطراب في منظومات الاعتقاد الأساسية لدى النخب الدينية والفكرية، التي ستبقى ضروب العصاب لديها تنطلق من الحاجة لأن تشعر، وتدّعي، بأعلى ما تستطيع، أنّها صالحة وعلى صواب. وفي هذا الحال، فإن التوفيق وليس القبول هو أفضل ما يمكن تحقيقه في أي وقت. وقد لا يكون عصرنا هذا، للأسف، مناسباً للحلول التوفيقية.ـ

وإذاً، فما الذي يمكن للبشر الذي يعانون من عقدة المخلّص العميقة أن يفعلوه في هذه الأزمنة المضطربة؟ إنه ما يفعلونه في جميع الأزمنة الأخرى، كما أعتقد؛ أي أن يحملوا صلبانهم ويمضوا قُدُماً، فما الخيار الآخر الذي لديهم في حقيقة الأمر؟ فالصمت والتأمل الهادئ فيما يحيط بهم/بنا من جنون قد يلاءم النسّاك لا الهراطقة، الملائكة لا المخلّصين، الأشخاص ذوي الرؤية الواضحة لا الأرواح المعذَّبة. وأنا أعتقد أن العالم يحتاج الاثنين. وأعتقد أيضاً، سواء كان ذلك ادعاءاً أم لا، وافتراضاً أم لا، أنني أعلم موقعي المناسب من الإعراب في خضم هذا كلّه. ولطالما كنت كذلك.ـ

تعليقـــات

غسان كرم...ـ


عمّار، بعض الملاحظات وحسب على ما كتبته:ـ

(1)- فكرتك التي مفادها أن الأفعال الأنانية معاكسة بالضرورة للخير العام قد عارضها الكثيرون ومن الواضح أنَّ قلة فقط هي التي أيدتها. ولعلّ فكرة آدم سميث هي الفكرة التي تجسّد كبرى المعارضات، حيث يُعْتَبَر مفهومه عن "اليد الخفية" من أهم المبادئ في مجتمع حرّ. فهو يرى، كما تعلم، أننا لا نكف عن السعي وراء ما هو خيّر بالنسبة لنا كأفراد وأننا في سعينا وراء رفاهنا الشخصي نتصرف على نحوٍ يبتغي زيادة الخير العام؛ نتصرف كما لو أنَّ يداً خفية ترشدنا وتوجهنا. وهذه الفكرة التي ترى أن الخير الخاص ينسجم مع الخير العام هي الأساس الذي تقوم عليه الأسواق الحرة والرأسمالية.ـ

(2)- ما أثرته حول من هو البطل الحقيقي ممتاز. ونحن بحاجة دائمة لأن نتذكّر حقيقة أنَّ من يجترحون الأفعال البطولية إنما ينظرون إلى ذلك على أنّه أمر عادي ومتوقَّّع. فالمرء لا يخرج ساعياً وراء الأفعال البطولية لأنها ستكفّ عن كونها بطولية إذا ما فعل ذلك.ـ

(3)- أجل "أرواح الأبطال غالباً ما تكون مثقلة بالخطأ بل وبإحساس الهزيمة" وهذا ما ينبغي أن يكون. فإن لم يكونوا كذلك لن تكون ثمة حاجة لأفعالهم البطولية. فالبطولة لا حاجة لها إلا في عالم مثقل بالظلم والإهمال. وكلما زادت ألفتنا بأمارات العصر، زادت ملاحظتنا "مساوئ" هذا العالم وحكمنا على أنفسنا، كما قال ليوبولد، بأن نعيش في "عالم من الجراح".ـ

(4)- أخيراً، أعتقد أن البشرية سوف تكفّ عن الوجود إن لم تتخذ خيارات عقلانية مخطَّط لها. فلا خيار أمامنا سوى أن نقوم بذلك إذا ما أردنا البقاء كنوع. وعلاوةً على ذلك، فإنني لا أوافق على ما تقوله ضمنياً من أن الخيار العقلاني لا ينبغي أن يكون ذلك الخيار الذي يُتَّخَذ ردّاً على صعوبة ناشئة أو تطور ناشئ بل ينبغي أن يُتَّخَذ في فراغ. هل يمكن أن نختار مفترقاً في درب إن لم يكن ذلك المفترق موجوداً؟ـ

عمار...ـ

مرحباً غسان، أشكرك على ملاحظاتك الثاقبة. الحقيقة أنني لا أخالف فكرة سعي الفرد وراء مصلحته الشخصية، لكن لدي مشكلة مع فكرة اليد الخفية، لأن مثل هذا الاعتقاد هو بالضبط ما يخلق خلطاً في الذهن بين المصلحة الشخصية والصالح العام. وما لم يكن هنالك مقدار معين من الإرادة والتصميم على الموازنة بين الاثنين، فإنه لا بدّ من قيام تصادم بينهما. والإيمان باليد الخفية هو سبيل للتنصّل من مسؤوليتنا عن إقامة مثل هذا التوازن ومراقبة دوافعنا وأفعالنا وما يترتب عليها من نتائج، سواء كانت مقصودة أم لا.ـ

وإذا ما كان التاريخ قد علّمنا أي شيء عن أنفسنا فهو أنَّ قَدْراً مناسباً من الشكّ والارتياب في بواعثنا ودوافعنا الأساسية إنّما يفرضه نزوعنا إلى تفحّص العالم من منظار مصالحنا الخاصة دون أن نهتم كثيراً بإمكانية أن يكون لدى الآخر طريقته المختلفة في النظر إلى الأمور، نظراً لأهوائه وآرائه الخاصة. ومثل هذا الوضع يمكن أن يفضي بسهولة إلى صدام المصالح، دَعْ عنك صدام الأشخاص، وما لم نُعْمِل الفكر الثاقب هنا، فإنَّ ما من يد خفية سوف تحلّ ما ينطوي عليه هذا الوضع من مشكلات.ـ

أما بشأن نقطتك الثانية، فإنني لم أقصد أنَّ علينا أن نتّخذ خيارات في فراغ، وما أشرت إليه هو أنَّ المجتمعات والدول غالباً ما تنتظر، دون أية ضرورة، أن تحلّ الكوارث قبل أن تُدخِل أيّة تعديلات على بنياتها، وقناعاتها، وخياراتها. والكوارث غالباً ما يمكن درؤها وتلافيها، كما يمكن للمرء أن يراها قادمة على بعد ميل، لكن هذا بالضبط هو الموضع الذي يعمل فيه طمعنا على تكدير أحكامنا. والكوارث ليست شرطاً مسبقاً للخيار العقلاني، أما اليقظة فهي شرط مسبق لمثل هذا الخيار، وكذلك الكفاح المتواصل للموازنة بين المصالح الفردية والمصالح الجمعية لمختلف الجماعات مع الصالح العام الذي يطول الجميع.ـ

هاوي...ـ

عمارـ

سوف أعيد قراءة تعليقاتك، أما الآن فإليك هذه الردود وحسب:ـ

(1)- من الحسن أن نتكلم بين الحين والآخر بطريقة أشدّ فلسفية / كونيةً وأقل سياسية.ـ

(2)- قال لي أحد الأساتذة مرّة: "الشجاعة هي أن تفعل ما يخيفك بلا جزاء ولا شكورا"
(3)- بشأن البطل، لا يمكن إلاّ أن أوافقك الرأي. فمعظم الأبطال، الحاليين والتاريخيين، عادةً ما تكون قد أتيحت لهم لحظة أو مرحلة بارزة. وعندي... أنّ البطل هو إنسان لبق يكافح من أجل اللباقة... يومياً وعلى مدى طويل، ويضع نفسه تحت طائلة الشكّ، ويتحدى ذاته، دون جزاء ولا شكر و"يفعل الخير لأجل الخير".ـ

وعندي... أنَّ الخير والشرّ غالباً ما تغشاهما ظلال عديدة وهذا ما يجعل حياتي بالغة الصعوبة. أنت تذكر هذه الكلمات من فيلم "العازف على السقف": "يمكن للأمور أن تكون كذلك، ولكنها قد تكون غير ذلك، ومن ناحية أخرى...".ـ

والبشر غالباً ما يحبون من لديهم يقين وإيمان عظيمين بقضيتهم وعقيدتهم. ومن لديهم يقين شديد يثيرون رعبي. فهل الحياة حقاً بمثل هذا الوضوح؟ـ

لو أتيح لي أن أكون قائداً لكنت قائداً سيئاً، لأني كنت سأمضي عمري وأنا أقول: "هذا الرجل على حق، وذاك الرجل على حق، وقد يكون الأمر عير ذلك...".ـ

مبادئ أساسية... أجل؛ الحرية، اللطف، الكرم، الإنصاف، الاهتمام. لا تقتل، لا تعذّب، لا تأخذ ما يزيد كثيراً على حاجتك... شارك الآخرين. هذا واضح تماماً بالنسبة لي.ـ

على أية حال... لقد أحببت ما كتبتَه.ـ

أليكس...ـ

عمار، لست واثقاً من أنني فهمت كلّ ما قلته في هذه المادة التي تمثّل تحدّياً.ـ

مناقشة السياسة أمر أسهل.ـ

لكنني أشعر مع ذلك أن لدي بعض الأشياء لأقولها.ـ

التوازن هو الشيء الأمثل.ـ

لا يمكن للمرء أن يتصرف كبطل كل يوم طوال حياته.ـ

أحياناً، تحتاج لأن تقوم بأشياء "أنانية" تتمتع بها، وإلا لكان عليك أن تتساءل عن الحكمة في أن تكون بطلاً، أو ما إذا كان بمقدورك أن تواصل لعب هذا الدور، أو إن كنت مؤثِّراً في لعبك إياه...ـ

في بعض الأحيان لا يحتاج البشر إلى بطل ينقذهم من تلقي درسٍ قاسٍ، في بعض الأحيان يمكن أن ينتفعوا من خوض هذا الدرس والخروج منه بشيء يتعلمونه.ـ

غسان، لست واثقاً من أنني أوافقك على أنَّ الخير الخاص ينسجم بالضرورة مع الخير العام...ـ

لو كان المجتمع متجانساً وكان لدى الجميع تلك القيم المتطابقة، ربما لكان ذلك صحيحاً، ولكن بما أنَّ هنالك تنويعات لا حصر لها من الغايات والقيم، فقد يتداخل خيرنا الخاص، أو يتسق، مع "الخير العام" لجماعة أخرى مشابهة من البشر، إنما دون أن يكون كذلك مع الخير العام.ـ

Friday, September 22, 2006

أنا عربي

أنا عربي – حقّي أخرس، وباطلي ثرثار لا يرحم
أنا عربي – عدوّي طبيب، وصديقي جلاّد لا يرحم
أنا عربي – ظلامي دفء، ونوري برد لا يرحم
أنا عربي – حقدي نعمة، وحبي نقمة لا ترحم
أنا عربي – فعلي خواء، وخطابي حرب لا ترحم
أنا عربي – أنا هزيمة، أنا فجيعة نكراء لا ترحم
أنا عربي – أنا أضداد، وأضدادي كلها لا ترحم
أنا عربي – أنا لا أرحم، أنا لا أُرحم، أنا لن أُرحم و لن أرحم

أنا عربي...ـ

Saturday, September 02, 2006

الليبراليون والخلاص

إذا كان المثقفين اليساريين يحبّون أن يصوّروا أنفسهم هذه الأيام على أنهم شهداء القضية العربية الأحياء وآخر حاملي رايات قيم العدالة الإجتماعية والأصالة الثقافية الحقيقية، بصرف النظر عن تعريفهم للحقيقة والأصالة هنا، وإذا تسنّى لموقفهم هذا أن يحظى يوماً بتعاطف شعبي، وإن بقي هذا الأمر مستبعداً، فإن المثقفين الليبراليين الحقيقيين، أي المثقفين الذين هم أكثر علمانية حتى مما يمكن للأذواق الاشتراكية أو الشيوعية أن تتقبله (إذ يؤمن الليبراليون بفصل العقيدة مهما كانت عن الدولة)، وأكثر اهتماماً بحقوق الفرد مما يمكن للأديان التقليدية أن تعطيه، وذلك مهما تمّ تحديثها وتعديلها، فإن هؤلاء الليبراليين يمثلون فزاعات وغيلان العالم المعاصر الذين سيبقون رهن الاحتقار في المنطقة ولفترة طويلة قادمة وذلك حتى، بل خاصة، في حال، أثبت الزمن أنهم كانوا على حقّ.

فقد أصبح المثقفون الليبراليون منقطعين تماماً عن جذورهم الثقافية المزعومة بحيث صار من الصعب فهمهم واستيعابهم من قبل أغلبية الناس، وفي الحقيقة يبدو أن الناس تجد صعوبة في تصديق وتقبّل تعلّق الليبراليين المستمر بالعروبة، نظراً لعدم تبنّيهم لذلك المزيج الغريب المؤلّف من منطق الغرور الحضاري ومنطق وعقلية الضحية الذي أصبح منذ زمن أحد العلامات المميّزة للهوية العربية المعاصرة. لقد أصبحت العروبة بالنسبة لمعظم الناس، مثقفين وعوام، بمثابة دين جديد محدّد، له قيمه الثابتة وأخلاقياته بل وتعاليمه السرّانية الخاصة والتي لايمكن تعليمها إلا للمنخرطين في الطريقة، وذلك وفق آلية قديمة مستحدثة من الخطاب التوجيهي الذي لا يترك مجالاً حقيقياً للمناقشة الحرّة والتأمل ونقد الذات. وحده الوهم الذي يصوّر لصاحبه أن خياراته جاءت نتيجة تحليل موضوعي وعقلاني هو الذي يبقى.

لكن ما يجعل الليبرالي ليبرالياً هو توصّله في مرحلة ما من عمره إلى قناعات جديدة غير قابلة للتعايش مع وهم من هذا النوع. لذا، يبدو الليبراليون غير قادرين البتة على الانسجام مع الرؤى والمخطّطات الوطنية لكل من حولهم من يساريين، وإسلاميين، وعروبين، وأنظمة حاكمة، وقوى فاعلة في العالم، وتلك التي لا يمكن لها أن تصبح فاعلة مهما رغبت وحاولت.

في حين يبدو واضحاً أن رؤيتهم الخاصة للمنطقة، وهي، خلافاً للانطباع السائد عنها لا تدعو إلى مجرّد نسخ وتقليد الحضارة الغربية في ربوعنا، هي أكثر غرائبية من أن تتحقّق في حياتهم. وفي الواقع، يبدو أن استيراد أو تصدير الحداثة بشكلها الغربي المجيد أمر قد تم بالفعل، وما يبقى اليوم هو مجرّد عملية هضم لها. ونظراً لنوعية المنتج الذي يتم هضمه، ولحالة الجهاز الهضمي عندنا في هذه المرحلة يبدو من الواضح أن هذه العملية ستكون طويلة ومؤلمة.

لذا، ربما كان أفضل إنجاز ممكن لليبراليين في هذه المرحلة هو أن يصرّوا على أن يكونوا مصدر النشاز الوحيد في جوقة الأوهام السائدة، فقد يتمخّض إصرارهم هذا مع الأيام عن ولادة جديدة لعالم جديد نحن بأمس الحاجة إليه، وبالتالي قد يتحقّق خلاص المنطقة على أيديهم هم، مهما بدا هذا الأمر بعيد المنال اليوم. إن كل ليبرالية الدنيا لا يمكن لها أن تخلّصنا من حاجتنا إلى الخلاص ومن عقدته المتوغّلة في نفوسنا، وربما كان هذا هو مصدر اصرار الليبرالين على الارتباط بالمنطقة وبالعروبة في وجه كل التغرّب الذي يشعرون به وكل الرفض الذي يواجهونه.